مستقبل الفكر التكفيري وكيفية مواجهته
شَكَّل الفكر التكفيري أحد ملامح أزمة التيارات التي تنسب نفسها إلى الإسلام، ومعضلة مفكريها وقادتها ممن يسعون لتبرير وانتهاج العنف والتطرف طريقًا ضد المختلفين معهم عقائديًّا ومذهبيًّا بل وسياسيًّا؛ لذلك أسهم الفكر التكفيري في التأصيل لتنامي الأفكار المتشددة، والبعد عن صحيح الإسلام ووسطيته واعتداله وسماحته، ودعوته للسلام والتعارف والتعايش السلمي، وإقامة علاقات قويمة مع الآخر، وهو ما أدى إلى اختطاف الإسلام من قبل جماعات إرهابية تسعى لتوظيفه لتحقيق مآرب شخصية نجحت في تشويه صورته واختزاله في ممارسات هذه الجماعات. ولقد استند الفكر التكفيري منذ نشأته على يد الخوارج في صدر الدولة الإسلامية على تأويلات مغلوطة لمفاهيم وقضايا ملتبسة كان أكثرها إثارة للجدل مفاهيم مثل: الحاكمية، وحتمية الجهاد، والولاء والبراء، والبيعة، والإمامة، والخلافة، وغيرها من المفاهيم الأخرى.
وظاهرة التكفير بين الأديان والمذاهب ليست وليدة اليوم، فقد مورست حقبًا طوالًا ومتعاقبة، من خلال تأويل النصوص الدينية، والمصطلحات الفقهية، لمصلحة وجهة النظر التقليدية، اتبعته بعض الجماعات المتشددة، متخذةً من الفكر العقدي سلطة دينية لفرض سيطرتها على المجتمعات، هذه الظاهرة ممتدة حتى عبر الأديان التي سبقت الإسلام، فالديانتان، اليهودية والمسيحية، وإن كانت نصوصهما لا تتضمن كلمة التكفير بالمعنى الاصطلاحي ذاته، الذي تبناه بعض المتشددين من المسلمين حديثًا، ولكنه موجود بمعانٍ مختلفة.
وقد عرّفت المعاجم اللغوية العربية كلمة التكفير، من المصدر الكُفْر، بأنه ضد الدين، أما المعاجم اللغوية الحديثة فقد عرّفت كلمة الهرطقة بأنه البدعة في الدين، وهي كلمة ذات أصل يوناني دخيلة على اللغة العربية، ومعناها في أصلها اللغوي انتقاء، أو انتخاب، أو اختيار لرأي ما، مع تفضيله على غيره من آراء، ثم تطورت الكلمة عند اليونانيين وعند كتّاب الرومان، فأصبحت تُستخدم للدلالة على مذهب من المذاهب الفلسفية، أو مدرسة من مدارس الفكر، وأخذت الكلمة طريقها إلى الدين، فصارت تُطلَق على الفرق أو الطوائف الفكرية المختلفة داخل هذا الدين أو ذاك، ويُطلق عليها أيضًا مصطلح الزندقة heretic، وهي تغيُّر في عقيدة أو منظومة معتقدات مستقرة، لاسيما الدين، بإدخال معتقدات جديدة عليها أو إنكار أجزاء أساسية منها، وهو ما يجعلها بعد التغير غير متوافقة مع المعتقد المبدئي الذي نشأت فيه هذه الهرطقة.([1])
تأسيسًا على ما سبق، تسعى الدراسة إلى الإجابة عن تساؤل محوري مؤداه ما هو مستقبل الفكر التكفيري لدى التيارات التي تنسب نفسها إلى الإسلام، وكيفية مواجهته؟ إضافة إلى التساؤل المحوري، ثمة مجموعة من التساؤلات الفرعية المكملة له، وهي كالتالي:
- ما أصول الفكر التكفيري، وأبرز مقولاته لدى منظري التيارات التي تنسب نفسها إلى الإسلام؟
- ما الأسباب التي أسهمت في انتشار الفكر التكفيري؟
- ما آليات مواجهة الفكر التكفيري، سواء من خلال المواجهة الفكرية أو من خلال الممارسات على أرض الواقع؟
- ما مستقبل الفكر التكفيري؟
وتنقسم الدراسة إلى ثلاثة محاور رئيسية: يتناول الأول أصول الفكر التكفيري، أما المحور الثاني فيرصد الأسباب التي أسهمت في انتشار الفكر التكفيري، ويأتي المحور الثالث والأخير ليتناول آليات مواجهة الفكر التكفيري.
أولًا: أصول الفكر التكفيري
يمكن رصد أصول الفكر التكفيري من خلال العناصر التالية:
1- التكفير في اليهودية: اندلع الصراع داخل اليهودية، وظهر التكفير ونشبت الحروب، فهناك أتباع لأسفار موسى في التوراة، وهناك من يتبع أسفارًا أخرى، ويمتد صراع بين اليهود الأرثوذكس أو الحريديم أو المتشددين واليهود المعتدلين، ويدور صراع بين اليهود الغربيين -الأشكيناز- ويهود الشرق -السفارديم- ويكفر يهود الغرب يهود الشرق، ويحرّمون الزواج منهم أو نقل دم اليهودي الغربي -الطاهر- إلى اليهودي الشرقي -الزنديق- ولايزال الصراع قائمًا حتى اليوم في إسرائيل، وهناك جماعة يهودية لا تعترف بدولة إسرائيل -وهى جماعة ناطورى كارتا أو حراس المدينة- الذين يعتبرون إسرائيل دولة باطلة، لأنها نشأت بموجب إرادة بشرية دون مشيئة إلهية، فإسرائيل سوف تُنشأ على يد المسيح المخلص الذى لم يأتِ بعد. ([2]).
2- التكفير في المسيحية: داخل المسيحية كان الصراع أكثر حدة ودموية، ففي القرن الرابع ظهر الخلاف حول طبيعة السيد المسيح، وانقسمت المسيحية إلى طائفتين، كاثوليكية وأرثوذكسية، واندلع بينهما صراع دموي، ثم انقسمت الكاثوليكية وخرجت منها البروتستانتية قبل خمسة قرون، واندلعت بينهما الحروب الطاحنة، ولم تكن صكوك الغفران التي كانت تمنحها الكنائس -قبل عملية الإصلاح الديني والفصل بين الديني والدنيوي التي قادها مارتن لوثر كنج - سوى نموذج لتوظيف الدين في خدمة الأهواء والرؤى الشخصية، وتكفير الرافضين لسلطة الكنيسة الزمنية.([3])
3- التكفير في الإسلام: اندلعت في الاسلام الحروب والمعارك، وانقسم المسلمون إلى سنة وشيعة وطوائف أخرى متعددة، دارت بينهم الحروب الطاحنة منذ تكفير الخوارج، وهي فرقة إسلامية، نشأت في نهاية عهد الخليفة عثمان بن عفان وبداية عهد الخليفة علي بن أبى طالب رضي الله عنه، نتيجة الخلافات السياسية التي بدأت في الظهور، أطلقت كلمة خوارج على أولئك النفر الذين خرجوا على علي بن أبي طالب بعد قبوله التحكيم عقب معركة صفين سنة 37 هجرية، إذ اعتبر هؤلاء التحكيم خطيئة تؤدي إلى الكفر، ومن ثم طلبوا من «علي» أن يتوب من هذا الذنب، وانتهى الأمر بأن خرجوا من معسكره، وقد قبل الخوارج هذه التسمية، ولكنهم فسَّروا الخروج بأنه خروج من بيوتهم جهادًا في سبيل الله وفقًا لقوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله)[سورة النساء/الآية:100]، وقد أطلق على الخوارج أيضًا اسم «الشُّراة»، وربما يكونون هم الذين وصفوا أنفسهم بذلك، كما ورد في قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد) [سورة البقرة/الآية:207]، وسمُّوا أيضا بالحَرورية لانحيازهم في أول أمرهم على قرية «حَروراء» بالقرب من الكوفة، كما سمُّوا أيضا بالمُحكّمَة لرفعهم شعار «لا حكم إلا لله»، والتفافهم حوله.
ومهما يكن من شيء، فإن اسم الخوارج في معناه الأول الذي يشير على الانشقاق ومفارقة الجماعة أصبح الاسم السائر على هذه الجماعة، ومن صفات الخوارج أنهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، قال صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية». وفي رواية: «يمرقون من الإسلام» وفي بعض الروايات: «يمرقون من الدين»، والمراد بالدين هو الإسلام، ومن صفاتهم أنهم شر الخلق والخليقة: قال صلى الله عليه وسلم: «هم شر الخلق أو أشر الخلق»، وفي رواية: «هم شر الخلق والخليقة».
وقد اشتهر عنهم كثرة عبادتهم، من صلاة وصيام وقراءة للقرآن، وهم أكثر من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء»، وقد انقسمت الخوارج الي فرق كثيرة بعضها أصول وبعضها فروع، ومنها الأزارفة والنجدية والصفرية والعجاردة. ([4])
وقد اتسم الخوارج بتشددهم وغلوهم في فهم الدين وساعدهم على ذلك تكوينهم النفسي المتقلب ومزاجهم الربعي القاسي، فخرجوا علي الدنيا بمبادئهم المتشددة، وقد عاملهم الإمام علي معاملة البغاة وقاتلهم، وهناك من الفقهاء والعلماء من كفرهم، وقد ارتبط الإرهاب دائمًا بالسلفية الجهادية، والتي ارتبطت بدورها بالفكر التكفيري للخوارج، وهو ما جعل العديد من الدعاة والعلماء يسقطون هذا اللفظ على الجماعات المسلّحة بداية من القاعدة و«داعش»، وأنصار بيت المقدس إلى قائمة لا تنتهي من الجماعات الارهابية المسلحة، ويعود هذا الربط إلى العوامل الاتية:
1- حالة الفزع والترهيب التي أثارها الخوارج بعد خروجهم على الإمام عليّ بن أبي طالب، التي جعلت كل الخارجين على الانظمة من فرقة الخوارج، كما جاءت في مدوّنة أهل الحديث بدءًا من أئمة الحديث وصولًا إلى ابن تيمية الذي أنتج الكثير من تلك الإدانة والشجب لتلك الفرقة.
2- اعتماد هذه الجماعات الارهابية على نفس المرجعية التي قامت عليها فرقة الخوارج وهناك العديد من أوجه تلك المشتركات العقدية والفكرية التي تتشابه فيها تلك الجماعات، وبالأخص داعش، مع المُنتج العقدي السلفي، والذي أثبتت داعش أنها تستند عليه كمادة شرعية تقوم على محدداته الأيديولوجية والحركية.3- حالة الاستحواذ على الدين وتوظيفه والتي يتميز بها الطرفين(القاعدة، وداعش) جعلت القاعدة تصف داعش بالخوارج، والعكس، لأن كليهما يستخدم نفس الأدوات من التراث للتكفير والإقصاء.([5]).
لذلك يمكن الإشارة إلى أبرز المقولات التي أسهمت في تبلور الفكر التكفيري لدى العديد من المفكرين والجماعات التي تنسب نفسها إلى الإسلام، وهي كالتالي:
أ. التكفير عند ابن تيمية: يقترن الفكر التكفيري عند ابن تيمية بفتواه الشهيرة، والتي تسمى «فتوى التتار» التي أفتى بها شيخ الإسلام ابن تيمية كما يلقبونه، في شأن التتار الذين استباحوا الشام، بعد أن اعتنق بعضهم الإسلام، ونطقوا بالشهادتين.
وعلى الرغم من ذلك كانت فيهم منكرات ومساوئ جعلت الناس يتهيبون لقتالهم، فهرعوا إلى الشيخ ابن تيمية يستفتونه في هذه المسألة الشائكة، فأفتاهم بفتواه الشهيرة بوجوب قتال التتار([6]).
ب. التكفير عند حسن البنا: هو مؤسس جماعة الإخوان، والذي تحتوي كتاباته على جذور العنف والدم والتكفير، والتي تظهر بوضوح في كتابيه مذكرات الدعوة والداعية، والرسائل؛ يدعو فيهما البنا إلى تكفير من لا يؤمن بمنهج الإخوان المسلمين، ولا يعمل لتحقيقه، فيقول في كتابه الرسائل: «إننا نعلن في وضوح وصراحة أن كل مسلم لا يؤمن بهذا المنهج، ولا يعمل لتحقيقه لا حظَّ له في الإسلام، ففكرتنا لهذا إسلامية بحتة، على الإسلام ترتكز ومنه تستمد، وله تجاهد، وفي سبيل إعلاء كلمته تعمل، لا تعدل بالإسلام نظامًا، ولا ترضى سواه إمامًا، ولا تطيع لغيره أحكامًا»، «ومن يتبع غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» (آل عمران: 85).
ثم نجده في (رسالة التعاليم) يدعو لمقاطعة كل الهيئات والمحاكم والمدارس والصحف المناهضة للإخوان المسلمين، فيقول عن واجبات الأخ الصادق: «أن تقاطع المحاكم الأهلية وكل قضاء غير إسلامي، والأندية والصحف والجماعات والمدارس والهيئات التي تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة».([7])
لذلك لم يكن غريبًا أن ينقل زعيم جماعة التكفير والهجرة شكري مصطفى –وكان من قبل عضوًا في الإخوان المسلمين– نفس هذا التوجيه لجماعته من حيث إسقاط الانتماء للمجتمع الكافر والدولة الكافرة، والامتناع عن المشاركة في أي هيئة أو جماعة من أجل إسقاط الدولة، فنجد شكري مصطفى يقول في تعليماته لتابعيه: عليك أن تتخلى عن صلتك بأي هيئة أو جماعة لا يكون الاتصال بها في مصلحة فكرتك الإسلامية([8]).
ج. التكفير عند سيد قطب: إن الخيط الناظم، والمنجم الفكري، الذي تولدت منه معظم الأطروحات التكفيرية، تبين أنه كتاب: (ظلال القرآن)، وأن ما سواه من كتب سيد قطب ككتاب: (معالم في الطريق) فما هي سوى مقتطفات من كتاب (الظلال)، فهو القاسم المشترك، والخيط الناظم، والروح السارية، لكل تلك التيارات التكفيرية. وتستند رؤية سيد قطب التكفيرية إلى عدد من الأفكار، لعل أبرزها:
1- إن المسلمين الآن لا يجاهدون، وذلك لأن المسلمين اليوم لا يوجدون، إن قضية وجود الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلى علاج.
2- لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا اللّه، فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان ونكصت عن لا إله إلا اللّه، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: «لا إله إلا اللّه» دون أن يدرك مدلولها... إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا اللّه، فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية، ولم تعد توحد اللّه، وتخلص له الولاء.. البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: «لا إله إلا اللّه» بلا مدلول ولا واقع.. وهؤلاء أثقل إثمًا وأشد عذابًا يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد -من بعد ما تبين لهم الهدى- ومن بعد أن كانوا في دين اللّه.
3- وصفه للمساجد التي تُقام فيها الصلاة ويُرفع فيها الأذان، بالمعابد الجاهلية، ويُطالب من هم على نفس فكره باعتزالها: «اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد». تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح([9]).
د. التكفير عند تنظيم القاعدة: استند فكر القاعدة التكفيري إلى مقاتلة العدو البعيد أولًا، وهم من اعتبرهم أعداء الأمة الإسلامية، وهما الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل باعتبارهم كفارًا. لذلك اشتملت أدبيات التنظيم على وجوب مقاتلة العدو البعيد أولًا، ثم إقامة الخلافة الإسلامية، وتطرح المقارنة بين تنظيمي القاعدة وداعش بُعدًا آخر للخلاف، يتمثل في تنافر الأولويات، فالقاعدة كانت ترى أن الجهاد يجب أن يتركز ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، في حين رأى أبومصعب الزرقاوي –وداعش من بعده- أنَّ الجهاد ضد النظم الكافرة يجب أن يحتل الأولوية ضمن تحديد أولويات العداء التي تفصل اختيار أي عدو قريب يجب أن يبدأ التنظيم به.([10].)
ه. التكفير عند تنظيم داعش: استمد البغدادي فكرة بناء الدولة الإسلامية من الأسس ذاتها التي سبق أن صاغها واعتمدها الزرقاوي وأبوعمر البغدادي، وكان الزرقاوي قد وعد بإقامة الإمارة الإسلامية، وعرض المراحل التي ستعبرها أولًا ستقوم بإزالة العدو (والعدو هنا هو النظم والدول العربية والإسلامية التي يراها داعش كافرة)، وثانيًا: تقيم الدولة الإسلامية، أي أن الهدف له الأولوية، ومن بعده يأتي هدف البناء، أي بناء دولة الخلافة على أنقاض ما يراه من دول كافرة، وثالثًا: "ننطلق خارجًا للاستيلاء على بقية الدول الإسلامية، أي «هدف التمدد»، ورابعًا: «بعد ذلك نقاتل الكفار»، وأخيرًا قتال اليهود.
لقد خرج تنظيم داعش من رحم تنظيم القاعدة وانفصل عنه في كيان مستقل، ولكنه لم يطوّر الأطر العقائدية أو الفقهية، ويكاد التنظيمان يتفقان في قضايا عدة؛ فكلاهما يُكفّران الشيعة، ويعتبران العلمانية كفرًا بواحًا وخروجًا على الملة، ويرى التنظيمان ضرورة استمرار الجهاد، ويسعيان في الوقت نفسه لنفي صفة الغلو عنهما، ورفض وجود أي تماثل بينهما وبين الخوارج، وغير ذلك من أوجه التوافق التام للبنية الفكرية بين الطرفين.
ويعود الخلاف بين تنظيمي القاعدة وداعش، والتكفير المتبادل بينهما نتاجًا للتنافس على القوة الجهادية وجذب المناصرين والتأثير بالجهاد العالمي.
إن ممارسات داعش ليست جديدة أو طارئة على الممارسات الجهادية، ولكنها طارئة على الوعي الراهن للمشاهد، فبالعودة إلى الجزائر في تسعينيات القرن العشرين، نجد أن الجماعة الإسلامية المسلحة كانت تمارس العنف بالدموية والوحشية نفسها التي يمارسها داعش، والفرق هو غياب الوسيلة الإعلامية، فلقد أظهر انتشار الفضائيات العربية وتوسع الميديا الجديدة والاهتمام العالمي بالظاهرة الداعشية أن هذا التنظيم هو الأشد عنفًا في تاريخ الحركات الإسلامية الجهادية، لكن الرجوع إلى أرشيف العنف الجهادي، يبرهن على أن مشاهد العنف المتطرف متأصلة وعميقة الجذور وتتخطى تاريخيًا مقاتلي داعش.([11]).
و. التكفير عند الجماعات السلفية والجهادية: يمكن القول إن مقدمة وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم التي أصدرتها جماعة الجهاد الإرهابية المصرية عام 2007 في إطار المراجعات تتضمن -على إيجازها- مجموعة من الأفكار الأساسية التي تشكل ما يمكن أن يطلق عليه الإطار المرجعي للوثيقة، ولعل الفكرة الجوهرية الأولى هي النظر إلى الخلافة الإسلامية نظرة مثالية تؤدي في النهاية إلى تقديسها والحلم باستعادتها، لكن أخطر ما في الوثيقة هو عرضها نظرية متكاملة في التكفير.
فقد جاء في الوثيقة تحت عنوان «دين الإسلام»، حيث تقول: «والإسلام ملزم لجميع المكلفين من الإنس والجن من وقت بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) وإلى يوم القيامة»، وبالتالي فالبشر جميعهم منذ البعثة النبوية وإلى يوم القيامة هم «أمة الدعوة» (المدعوون إلى اعتناق دين الإسلام)، فمن استجاب منهم لذلك فهم أمة الإجابة، وتسترسل الوثيقة فتقول: «ومعنى إلزام دين الإسلام أن الله سبحانه لن يحاسب جميع خلقه المكلفين منذ بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) وإلى يوم القيامة إلا على أساس دين الإسلام، فمن لم يعتنق دين الإسلام، أو اعتنقه ثم خرج عن شريعته بناقض من نواقض الإسلام، فهو هالك لا محالة إن مات على ذلك». واستندت الوثيقة في هذا الحكم الخطير إلى آية قرآنية هي «ومن يتبع غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» (آل عمران: 85).
وبعد ذلك تقدم الوثيقة نظرية متكاملة في الكفر مبنية على مقولة مبدئية هي أن «الإسلام يتحقق بتقديم مراد الرب على مراد النفس، فإنه ينقص أو ينتقص بمخالفة ذلك، والمخالفة درجات: فمن قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء يسيرة فهذا مرتكب الصغائر (وهي العصيان)، ومن قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء كبيرة فهذا مرتكب الكبائر (وهو الفسوق)، ومن قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء عظيمة فقد وقع في الكفر».([12]).
ثانياً : الأسباب التى أدت إلى انتشار الفكر التكفيري
يعد التكفير من الثمرات المرة لميراث ثقافي إسلامي معادٍ للعقل والاجتهاد والتسامح، وضيق الأفق في فهم نصوص الدين ، فالتراث العربي الإسلامي شأنه شأن أي تراث ثقافي في التاريخ الإنساني فيه الظلامي والتنويري، وأنه مثلما حوى تيارات العقل والتجديد والاجتهاد والتسامح، كان فيه القدر الكبير من تيارات التحجر والجحود والانغلاق والتكفير والتشرنق على الذات. ومن ثم تنوعت العوامل التى أدت لبلورة الفكر التكفيرى ويعد أبرزها التالي:
1- شكلت الحاكمية الفكرة المحورية التي تأسست عليها بقية مفاهيم التيارات الإسلامية التكفيرية ، فهي الجذر الذى نهضت على أساسه منظومتهم الفكرية بكل مقولاتها، ومفاهيمها، وفروعها، ومنها تولدت بقية مفاهيمهم:فانبثقت منها فكرة: شرك الحاكمية وتوحيد الحاكمية عند سيد قطب وأخيه محمد قطب، وتولدت من ذلك فكرة العصبة المؤمنة، وفكرة الوعد الإلهي لهذه العصبة المؤمنة، وفكرة الجاهلية، التي هي حالة بقية المسلمين، وفكرة المفاضلة والتمايز الشعوري بين الفئتين، وفكرة الاستعلاء من العصبة المؤمنة على الجاهلية وأهلها، وفكرة حتمية الصدام بين الفئتين عند سيد قطب، وفكرة التمكين، إلى آخر شجرة المفاهيم التي نتجت من قضية الحاكمية، والتي تتكون من مجموعها نظرية متكاملة داخل عقل تلك التيارات. وهى مجموعة من الأفكار، تغزو عقل المتدين، فيتحول بها من متدين إلى متطرف، ثم من متطرف إلى تكفيري، ثم من تكفيرى إلى قاتل يحمل السلاح ويسفك الدماء(.[13]).
2- الاختلاف بين المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، مثل التنازع علي الخلافة وورود المتشابه في القران وشيوع التفكير الكلامي والفلسفي بين علماء المسلمين في اثبات العقائد والحجج والدفاع عن العقيدة وقد جرهم ذلك الي دراسة مسائل ليس في استطاعة العقل البشري ان يصل الي نتائج مقررة ثابتة فيها كمسالة اثبات صفات الله تعالي ونفيها وقدرة العبد بجوار قدرة الرب .
3- التمسك والتعصب للأطروحات التكفيرية من خلال رفض إعمال العقل والتمسك بأقوال السلف دون فهم سياقها لتخلق في النهاية حالة تكفيرية دموية استناداً إلى نصوص يفسرونها على حسب أهوائهم ليستبيحوا بها دماء المسلمين وغير المسلمين ليشكلا معا رابطًا أساسيًّا للفكر التكفيري من حيث المحتوى والمضمون. فالمتتبع للمنشأ التاريخي لكل تيارات العنف والتكفير يجد أنها امتداد طبيعي لفكرٍ واحدٍ تختزله حالةُ "الخوارج" في رفض ومقاتلة كل من يخالفهم في الرأي. وقد ارتبط الخوارج على مدى تاريخهم بالتعصب للمذهب على حساب الدين واستغلال ذلك كمبرر للقتل والتنكيل بخصومهم من المسلمين وغير المسلمين وهو ما تطبقه الجماعات الإرهابية المرتبطة بالقاعدة والسلفية الجهادية، ويمثل "داعش" "وأنصار الشريعة "و"أنصار بيت المقدس "نماذج لهذا التطرف المقيت تحت مصطلحات إسلامية كالبراء والولاء والجهاد الشرعي وغيره من المفاهيم المغلوطة.([14]).
4- إجمالا داخل كل ديانة من الديانات الثلاث الإبراهيمية( اليهودية،المسيحية،والإسلام) وجد من يدّعى أنه ممثل الله على الأرض، وظهرت نظرية الحق الإلهي في الحكم، ونظرية خليفة الله على الأرض، وجمع الحاكم بين السلطتين الدينية والدنيوية، وأصدر أحكامه على البشر بالهرطقة والزندقة والكفر، فكان الموت هو العقوبة، وتفنّنوا في طرق الموت ما بين قطع الرقبة والحرق حياً، وفى الوقت نفسه تربّحوا من هذه العقوبة عبر منح صكوك الغفران وبيع أجزاء من الجنة.([15] ).
ثالثًا: آليات مواجهة الفكر التكفيري
تتنوع آليات مواجهة الفكر التكفيري، وهو ما يمكن إبراز أهمها في التالي:
1- ضرورة تصحيح المفاهيم المغلوطة: فقد تعرض عدد من الشباب -ولايَزال- إلى عملية غسل الأدمغة، من خِلال الترويج لمفاهيم مغلوطة لنصوصِ القُرآن والسنة، واجتهادات العُلماء أفضت إلى الإرهاب والفكر التكفيري؛ ما يوجِب على العلماء وأهلِ الفكر مسؤوليَّة الأخذ بأيدي هؤلاء المغررِ بهم من خِلال برامج توجيه، ودورات تثقيف، تكشف الفهم الصحيح للنصوصِ والمفاهيمِ، حتى لا يَبقوا نهبًا لدعاة العنف، ومروجي التكفير.
ومن هذه المفاهيمِ مفهوم الخلافة الراشدة في عصر صحابة رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فقد كانت تنظيمًا لمصلحة الناسِ غايته حراسة الدين وسِياسة الدنيا، وتحقيق العدل والمساواة بين الناس، فالحكم في الإسلام يتأسس على قِيم العَدل والمساواة، وحِماية حقوق المواطنة لكل أبناء الوطن بلا تمييز؛ بسبب اللونِ أو الجنسِ أو المعتقد، وكل نظام يحقق هذه القيم الإنسانيةَ الرئيسية هو نظام يكتسب الشرعية من مصادر الإسلام، ومن المفاهيم المحرفة أيضًا مفهوم الجهاد، ومعناه الصحيح في الإسلام هو أنه ما كان دفاعًا عن النفس وردًّا للعدوان، وإعلانُه لا يكون إلا من ولي الأمر، وليس متروكًا لأي فرد أو جماعة مهما كان شأنها.
2- إحداث ثورة في الفكر الإسلامي تعمل على تجديد فهم الدين، وتفسير آيات القرآن الكريم والسنة النبوية لقطع دابر المفسدين والجاهلين بأصول الدين، أي مراجعة فقهية وفكرية وثقافية وتطبيق المنهج الصحيح للإسلام، يقوم بها علماء دين تقاة وفقهاء يعرفون دين الله حق المعرفة؛ لتحريره من فكر ظلامي تستظل به منظمات الإرهاب والتكفير والتطرف، ومن فتاوى محرفة، وذلك يقتضي بالضرورة إعادة تأهيل المؤسسات الدينية والعلمية، وتنقيتها ممن يسيئون فهم الكتاب والسنة، وكذلك المناهج الدراسية الدينية والكتب التي تحرض على الفتنة والتكفير.
هي معركة يجب تقوم بها دور الإفتاء ووزارات الأوقاف والهيئات العلمية، ورجال الفكر والثقافة والإعلام لتعيد للإسلام صحيح بيانه وتسترده من فئة ضالة.([16])
3- التصدي للتغييب المتعمد لكل مقاصد الشريعة التي جاءت بالحياة وترفض العنف والإرهاب بكل صوره (ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيا النَّاسَ جَمِيعًا)، وبالخلق العظيم (وِإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم)، وبالحضارة، والتمدن، والرحمة للعالمين (وما أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَةً للعَالَمِين)، وبالتعارف مع كل الحضارات والشعوب (وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، وحفظ الأنفس والعقول والأعراض، واحترام الأكوان (الحَمْدُ لله رَبِّ العَالمـين)، وإكرام الإنسان مطلق الإنسان (ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَم)، وازدياد العمران (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَركُمْ فيها).
4- بلورت نهضة ثقافية أخرى كتلك التي كانت لدينا في أواخر القرن التاسع والعقود الأولى من القرن العشرين، والتي فاضت بإشعاعها على كل المنطقة العربية عندما كانت تخاطب العقل وتهذب السلوك وتنتج أشعة التنوير، هنا يبرز دور المكتبات العامة وأهميتها في نشر العلم، واكتشاف الموهوبين، ونشر الفكر المستنير، فضلًا عن ضرورة الاهتمام بالفنون والآداب والمسارح ونشر الثقافه([17]) .
الخاتمة
إن مستقبل الفكر التكفيري سيرتبط بمدى القدرة على إعلاء قيم التفكير، فالإسلام يدعو لذلك، وهناك الكثير من الإشارات في القرآن الكريم تدعو إلى ضرورة التفكر والتدبر والتأمل، وقد انتبه لذلك الأمر علماء مؤثرون من المسلمين، مثل «أبوحنيفة» وابن خلدون وابن رشد والكندي وابن سينا وابن الهيثم وغيرهم، ولكنهم حُجموا كثيرًا في الإرث الديني لصالح آراء أخرى أكثر تضييقًا، ويكفي أن هناك رأيًا لقامة عظيمة مثل الإمام الشافعي -رضي الله عنه- أحد أهم أئمة المذهب السُّنِّي الذي قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وفيه رؤية شمولية لأهمية التفكير وحرية الرأي والإتيان بالحجة الصحيحة، ولاشك في أن تنقية صورة الإسلام إنما تكون عن طريق تحريره من ذلك التراث الظلامي، ومن محاولات السطو عليه من قبل تيارات التكفير وجماعاته المتشددة.
المراجع :
(1) عبدالرحمن الخطيب، ظاهرة التكفير ليست محصورة ببعض المسلمين، جريدة الحياة اللندنية،17 /9/ 2014 .https://bit.ly/2libd04
(3) المرجع السابق، وللمزيد حول دور مارتن لوثر كنج راجع، هاشم صالح، مارتن لوثر كنج والإصلاح الديني الكبير، جريدة الشرق الأوسط،5/12/2017 https://bit.ly/2t4Mgta
(5) «المكفراتي من الخوارج إلى الدواعش» 5/9/2017 ،http://www.albawabhnews.com/2696235
(7) رسائل حسن البنا من ( 1906- 1949 )، وراجع أيضًا، مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا، تقديم «أبوالحسن علي الحسني الندوي»، مارس 1966.
http://www.islamist-movements.com/37889
(10) محمد كامل، القاعدة وداعش... منهج واحد وتكفير متبادل، 9/8/2016، https://www.elwatannews.com/news/details/1311739
(12) السيد ياسين، أصول الفكر التكفيري، جريدة الحياة اللندنية، 26 /12/2015 . https://bit.ly/2libd04.
http://www.islamist-movements.com/43447
(16) حسـني كمـال، الإعلام شريك أساسي في مواجهة الفكر التكفيري، https://bit.ly/2yl228t
شارك معنا
0 comments:
إرسال تعليق